قال المؤلف ، رحمه الله فائدة جليلة حسنة : ثبت في الصحيحين عن أنس قال : جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ، كلهم من الأنصار ؛ أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . فقيل له : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي . وفي لفظ للبخاري عن أنس قال : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ؛ أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ونحن ورثناه .
قلت : أبو زيد هذا ليس بمشهور ؛ لأنه مات قديما ، وقد ذكروه في أهل بدر ، وقال بعضهم : سعيد بن عبيد . ومعنى قول أنس : ولم يجمع القرآن . يعني من الأنصار سوى هؤلاء ، وإلا فمن المهاجرين جماعة كانوا يجمعون القرآن كالصديق ، وابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم .
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري ، رحمه الله : قد علم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر في مرض الموت ليصلي بالناس ، وقد ثبت في الخبر المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليؤم القوم أقرؤهم فلو لم يكن الصديق أقرأ القوم لما قدمه عليهم . نقله أبو بكر بن زنجويه في كتاب فضائل الصديق عن الأشعري .
وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قال – بعد ذكره حديث أنس بن مالك هذا – : فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان ، وعلي ، وتميم الداري ، وعبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص . فقول أنس : لم يجمعه غير أربعة يحتمل لم يأخذه تلقيا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء الأربعة ، وأن بعضهم تلقى بعضه عن بعض . قال : وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام ، وإعظام الرسول لهم .
قال القرطبي : لم يذكر القاضي ابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة ، وهما ممن جمع القرآن .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن عبيد بن السباق ، أن زيد بن ثابت قال : أرسل إلي أبو بكر – مقتل أهل اليمامة – فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إن عمر بن الخطاب أتاني ، فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . فقلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد [ ص: 25 ] كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو والله خير . فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما . فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز ) [ التوبة : 128 ] حتى خاتمة ” براءة ” ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر ، رضي الله عنهم .
وقد روى البخاري هذا [ الحديث ] في غير موضع من كتابه ، ورواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به .
وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق ، رضي الله عنه ، فإنه أقامه الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد بعده ؛ قاتل الأعداء من مانعي الزكاة ، والمرتدين ، والفرس والروم ، ونفذ الجيوش ، وبعث البعوث والسرايا ، ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه ، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله ، وكان هذا من سر قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] فجمع الصديق الخير وكف الشرور ، رضي الله عنه وأرضاه . ولهذا روى غير واحد من الأئمة منهم وكيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ؛ إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين . إسناده صحيح .
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة ، عن هشام ، عن أبيه ، أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ختمه . صحيح أيضا . وكان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، هو الذي تنبه لذلك لما استحر القتل بالقراء ، أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة ، يعني : يوم اليمامة ، يعني يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت ، وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف ، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفا ، فالتقوا معهم فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب ، فنادى القراء من كبار الصحابة : يا خالد ، يقولون : ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا منهم ، وانفردوا ، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف ، ثم صدقوا الحملة ، وقاتلوا قتالا شديدا ، وجعلوا يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله [ ص: 26 ] عليهم وولى جيش الكفار فارا ، وأتبعتهم السيوف المسلمة في [ أقنيتهم ] قتلا وأسرا ، وقتل الله مسيلمة ، وفرق شمل أصحابه ، ثم رجعوا إلى الإسلام ، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة ، رضي الله عنهم ، فلهذا أشار عمر على الصديق بأن يجمع القرآن ؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال ، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته ، فراجعه الصديق قليلا ليثبت في الأمر ، ثم وافقه ، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا إلى ما رأياه ، رضي الله عنهم أجمعين ، وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصاري ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد ، حدثنا يزيد ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ؛ أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل : كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة ، فقال : إنا لله ، فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف .
هذا منقطع ، فإن الحسن لم يدرك عمر ، ومعناه : أشار بجمعه فجمع ؛ ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال : حدثنا أبو الطاهر حدثنا ابن وهب ، حدثنا عمر بن طلحة الليثي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن عمر لما جمع القرآن كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان .
وذلك عن أمر الصديق له في ذلك ، كما قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لما استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبو بكر ، رضي الله عنه ، أن يضيع ، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت : فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه . منقطع حسن .
ولهذا قال زيد بن ثابت : وجدت آخر سورة التوبة ، يعني قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآيتين [ التوبة : 128 ، 129 ] ، مع أبي خزيمة الأنصاري ، وفي رواية : مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره فكتبوها عنه لأنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي ابتاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي ، فأنكر الأعرابي البيع ، فشهد خزيمة هذا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمضى شهادته وقبض الفرس من الأعرابي . والحديث رواه أهل السنن وهو مشهور ، وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبي بن كعب أملاها عليهم مع خزيمة بن ثابت .
وقد روى ابن وهب عن عمرو بن طلحة الليثي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن يحيى [ ص: 27 ] بن عبد الرحمن بن حاطب ؛ أن عثمان شهد بذلك أيضا .
وأما قول زيد [ بن ثابت ] فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال وفي رواية : من العسب والرقاع والأضلاع ، وفي رواية : من الأكتاف والأقتاب وصدور الرجال .
أما العسب فجمع عسيب . قال أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري : وهو من السعف فويق الكرب لم ينبت عليه الخوص ، وما نبت عليه الخوص فهو السعف .
واللخاف : جمع لخفة وهي القطعة من الحجارة مستدقة ، كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك ، مما يمكنهم الكتابة عليه مما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه ، فكان يحفظه ، فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من عسيبه ، ومن هذا من لخافه ، ومن صدر هذا ، أي من حفظه ، وكانوا أحرص شيء على أداء الأمانات وهذا من أعظم الأمانة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من بعده كما قال [ الله ] تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ المائدة : 67 ] ، ففعل ، صلوات الله وسلامه عليه ، ما أمر به ؛ ولهذا سألهم في حجة الوداع يوم عرفة على رءوس الأشهاد ، والصحابة أوفر ما كانوا مجتمعين ، فقال : إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون ؟ . فقالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يشير بأصبعه إلى السماء ، وينكبها عليهم ويقول : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد . رواه مسلم عن جابر . وقد أمر أمته أن يبلغ الشاهد الغائب وقال : بلغوا عني ولو آية يعني : ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية واحدة فليؤدها إلى من وراءه ، فبلغوا عنه ما أمرهم به ، فأدوا القرآن قرآنا ، والسنة سنة ، لم يلبسوا هذا بهذا ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : من كتب عني سوى القرآن فليمحه أي : لئلا يختلط بالقرآن ، وليس معناه : ألا يحفظوا السنة ويرووها ، والله أعلم .
فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم إلا وقد بلغوه إلينا ، ولله الحمد والمنة ، فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها ، من حفظهما كتاب الله في الصحف ؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته ، ثم أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة ، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن شهاب ، عن [ ص: 28 ] أنس بن مالك ، حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة . فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى . فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما أنزل بلسانهم . ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق . قال ابن شهاب الزهري : فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، التمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) [ الأحزاب : 23 ] ، فألحقناها في سورتها في المصحف .
وهذا – أيضا – من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة ؛ لئلا يختلفوا في القرآن ، ووافقه على ذلك جميع الصحابة ، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرقه ما عدا المصحف الإمام ، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا . فاتفق الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، رضي الله عنهم ، على أن ذلك من مصالح الدين ، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . وكان السبب في هذا حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه لما كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان ، وكان قد اجتمع هناك أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى ، ورأى منهم اختلافا وافتراقا ، فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان : أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى .
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب ، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة ، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا ، وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ولا حرف الياء ، والنصارى – أيضا – بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود والسامرة ، وأما [ ص: 29 ] الأناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة : إنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا وإنجيل متى ، وإنجيل يوحنا ، وهي مختلفة – أيضا – اختلافا كثيرا ، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط ، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو بالضعف ، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلام الله ، وهي مع هذا مختلفة ، كما قلنا ، وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف ، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة .
فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد ، وينفذه إلى الآفاق ، ويجمع الناس على القراءة به وترك ما سواه ، ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلاء الأربعة وهم زيد بن ثابت الأنصاري ، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعملا وأصلا وفضلا وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي ، وكان كريما جوادا ممدحا ، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ، فجلس هؤلاء النفر يكتبون القرآن نسخا ، وإذا اختلفوا في وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان ، كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء ، فقال زيد بن ثابت : إنما هو التابوه وقال الثلاثة القرشيون : إنما هو التابوت فتراجعوا إلى عثمان فقال : اكتبوه بلغة قريش ، فإن القرآن نزل بلغتهم .
وكان عثمان – والله أعلم – رتب السور في المصحف ، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين ؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة الكبار ، عن عوف الأعرابي ، عن يزيد الفارسي ، عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى ” الأنفال ” وهي من المثاني وإلى ” براءة ” وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، فإذا أنزلت عليه الآية فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبع الطوال . [ ص: 30 ]
ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ ولهذا ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتبا ؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا . وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان ، رضي الله عنه ، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ ، عليه الصلاة والسلام ، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة ب ” سبح ” و ” هل أتاك حديث الغاشية ” ، فإن فرق جاز ، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيد ب ” قاف ” و ” اقتربت الساعة ” ، رواه مسلم عن أبي واقد في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة : ” الم ” السجدة ، و ” هل أتى على الإنسان .
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا ، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران . أخرجه مسلم .
وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف . ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة ، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت ، فأخذها من عبد الله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الآفاق ، مصحفا إلى أهل مكة ، ومصحفا إلى البصرة ، وآخر إلى الكوفة ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى اليمن ، وآخر إلى البحرين ، وترك عند أهل المدينة مصحفا ، رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني ، سمعه يقوله . وصحح القرطبي أنه إنما نفذ إلى الآفاق أربعة مصاحف . وهذا غريب ، وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئلا تختلف قراءات الناس في الآفاق ، وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم ، وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط الذين تمالئوا عليه وقتلوه ، قاتلهم الله ، وذلك في جملة ما أنكروه مما لا أصل له ، وأما سادات المسلمين من الصحابة ، ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين ، فكلهم وافقوه .
قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغندر عن شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن رجل ، عن سويد بن غفلة ، قال علي حين حرق عثمان المصاحف : لو لم يصنعه هو لصنعته .
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، قال : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ، أو قال : لم ينكر ذلك منهم أحد . وهذا إسناد صحيح .
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ، حدثنا يحيى بن كثير ، حدثنا ثابت بن عمارة [ ص: 31 ] الحنفي ، قال : سمعت غنيم بن قيس المازني قال : قرأت القرآن على الحرفين جميعا ، والله ما يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف ، وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلام ، فأصبح له مثل ماله . قال : قلنا له : يا أبا العنبر ، ولم ؟ قال : لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرءون الشعر .
حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثني عمران بن حدير ، عن أبي مجلز قال : لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرءون الشعر . حدثنا أحمد بن سنان قال : سمعت ابن مهدي يقول : خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبي بكر ولا لعمر : صبره نفسه حتى قتل مظلوما ، وجمعه الناس على المصحف .
وأما عبد الله بن مسعود فقد قال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حميد بن مالك قال : لما أمر عثمان بالمصاحف – يعني بتحريقها – ساء ذلك عبد الله بن مسعود وقال : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغلل ، فإنه من غل شيئا جاء بما غل يوم القيامة .
ثم قال عبد الله : لقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد صبي ، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو بكر : حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا ابن شهاب ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) [ آل عمران : 161 ] ، غلوا مصاحفكم ، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت ، وقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل ، وما أحد أعلم بكتاب الله مني ، وما أنا بخيركم ، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته . قال أبو وائل : فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق ، فما أحد ينكر ما قال . أصل هذا مخرج في الصحيحين وعندهما : ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله . وقول أبي وائل : فما أحد ينكر ما قال ، يعني : من فضله وعلمه وحفظه ، والله أعلم .
وأما أمره بغل المصاحف وكتمانها ، فقد أنكره عليه غير واحد . قال الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء ، فقال : كنا نعد عبد الله جبانا فما باله يواثب الأمراء . وقال أبو بكر بن أبي داود : باب رضا عبد الله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف بعد ذلك : حدثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن عثمان العجلي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني الوليد بن قيس ، عن عثمان بن حسان العامري ، عن فلفلة الجعفي قال : فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في [ ص: 32 ] المصاحف ، فدخلنا عليه ، فقال رجل من القوم : إنا لم نأتك زائرين ، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر ، فقال : إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب ، على سبعة أحرف – أو حروف – وإن الكتاب قبلكم كان ينزل – أو نزل – من باب واحد على حرف واحد . وهذا الذي استدل به أبو بكر ، رحمه الله ، على رجوع ابن مسعود فيه نظر ، من جهة أنه لا يظهر من هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه ، والله أعلم .
وقال أبو بكر أيضا : حدثنا عمي ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مصعب بن سعد قال : قام عثمان فخطب الناس فقال : [ يا ] أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن ، وتقولون : قراءة أبي وقراءة عبد الله ، يقول الرجل : والله ما تقيم قراءتك ، وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به ، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا فناشدهم : لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمله عليك فيقول : نعم ، فلما فرغ من ذلك عثمان قال : من أكتب الناس ؟ قالوا : كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت . قال : فأي الناس أعرب ؟ قالوا : سعيد بن العاص . قال عثمان : فليمل سعيد ، وليكتب زيد . فكتب زيد مصاحف ففرقها في الناس ، فسمعت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : قد أحسن . إسناده صحيح .
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن كثير بن أفلح قال : لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ، قال : فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها ، قال : وكان عثمان يتعاهدهم ، وكانوا إذا تدارءوا في شيء أخره . قال محمد : فقلت لكثير – وكان فيهم فيمن يكتب – : هل تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال : لا . قال محمد : فظننت ظنا أنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله . صحيح أيضا .
قلت : الربعة هي الكتب المجتمعة ، وكانت عند حفصة ، رضي الله عنها ، فلما جمعها عثمان ، رضي الله عنه ، في المصحف ، ردها إليها ، ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما سواها ، إلا أنها هي بعينها الذي كتبه ، وإنما رتبه ، ثم إنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها ، فما زالت عندها حتى ماتت ، ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في ذلك ما تأول عثمان ، كما رواه أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سالم بن عبد الله : [ ص: 33 ] أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها . قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشققت ، وقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف ، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول : إنه كان شيء منها لم يكتب . إسناد صحيح .
وأما ما رواه الزهري عن خارجة عن أبيه في شأن آية الأحزاب وإلحاقهم إياها في سورتها ، فذكره لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر ، وإنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف كما جاء مصرحا به في غير هذه الرواية عن الزهري ، عن عبيد بن السباق ، عن زيد بن ثابت ، والدليل على ذلك أنه قال : فألحقناها في سورتها من المصحف وليست هذه الآية ملحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية . فهذه الأفعال من أكبر القربات التي بادر إليها الأئمة الراشدون أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حفظا على الناس القرآن ، جمعاه لئلا يذهب منه شيء ، وعثمان ، رضي الله عنه ، جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره – عليه الصلاة والسلام – فإنه عارضه به عامئذ مرتين ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته لما مرض : وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي . أخرجاه في الصحيحين .
وقد روي أن عليا ، رضي الله عنه ، أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبا بحسب نزوله أولا فأولا كما رواه ابن أبي داود حيث قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن محمد بن سيرين قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل ، فأرسل ، إليه أبو بكر ، رضي الله عنه ، بعد أيام : أكرهت إمارتي يا أبا الحسن ؟ فقال : لا والله إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة . فبايعه ثم رجع . هكذا رواه وفيه انقطاع ، ثم قال : لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث وهو لين الحديث وإنما رووا : حتى أجمع القرآن ، يعني : أتم حفظه ، فإنه يقال للذي يحفظ القرآن : قد جمع القرآن .
قلت : وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر ، والله أعلم ، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ولا غير ذلك ، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني ، يقال : إنها بخط علي ، رضي الله عنه ، وفي ذلك نظر ، فإنه في بعضها : كتبه علي بن أبي طالب ، وهذا لحن من الكلام ؛ وعلي ، [ ص: 34 ] رضي الله عنه ، من أبعد الناس عن ذلك ، فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم النحو ، فيما رواه عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ، وإنه قسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف ، وذكر أشياء أخر تممها أبو الأسود بعده ، ثم أخذه الناس عن أبي الأسود فوسعوه ووضحوه ، وصار علما مستقلا .
وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كانت قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثمان عشرة وخمسمائة ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل ، والله أعلم ، زاده الله تشريفا وتكريما وتعظيما .
فأما عثمان ، رضي الله عنه ، فما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف ، وإنما كتبها زيد بن ثابت في أيامه ، ربما وغيره ، فنسبت إلى عثمان لأنها بأمره وإشارته ، ثم قرئت على الصحابة بين يدي عثمان ، ثم نفذت إلى الآفاق ، رضي الله عنه ، وقد قال أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا علي بن حرب الطائي ، حدثنا قريش بن أنس ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد مولى بني أسيد ، قال : لما دخل المصريون على عثمان ضربوه بالسيف على يده فوقعت على : ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) [ البقرة : 137 ] ، فمد يده فوقعت : والله إنها لأول يد خطت المفصل .
وقال أيضا : حدثنا أبو طاهر ، حدثنا ابن وهب قال : سألت مالكا عن مصحف عثمان ، فقال لي : ذهب . يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده ، ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف الذي تركه في المدينة ، والله أعلم .
قلت : وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدا ، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره : أن بشر بن عبد الملك أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار ، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية فعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان ، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية ، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب ، وقيل : إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها : بقة ، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس . ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الحيرة . وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار .
قلت : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوفة ثم هذبها أبو علي مقلة الوزير ، وصار [ ص: 35 ] له في ذلك منهج وأسلوب في الكتابة ، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب وسلك الناس وراءه . وطريقته في ذلك واضحة جيدة . والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا ، وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى ، وصنف الناس في ذلك ، واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتابه ” فضائل القرآن ” والحافظ أبو بكر بن أبي داود ، رحمه الله ، فبوبا على ذلك وذكر قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ، ليست مقصدنا هاهنا ؛ ولهذا نص الإمام مالك ، رحمه الله ، على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام ، ورخص في ذلك غيره ، واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع ، فأما كتابة السور وآياتها والتعشير والأجزاء والأحزاب فكثير في مصاحف زماننا ، والأولى اتباع السلف الصالح .
ثم قال البخاري : ذكر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم . وأورد فيه من حديث الزهري ، عن ابن السباق ، عن زيد بن ثابت ، أن أبا بكر الصديق قال له : وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر نحو ما تقدم في جمعه للقرآن وقد تقدم ، وأورد حديث زيد بن ثابت في نزول : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) [ النساء : 95 ] وسيأتي الكلام عليه في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، ولم يذكر البخاري أحدا من الكتاب في هذا الباب سوى زيد بن ثابت ، وهذا عجب ، وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا ، والله أعلم .
وموضع هذا في كتاب السيرة عند ذكر كتابه عليه السلام .