( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( 24 ) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 25 ) ) [ ص: 260 ]
ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء ، مما يأكل الناس من زرع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) أي : زينتها الفانية ، ( وازينت ) أي : حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ، ( وظن أهلها ) الذين زرعوها وغرسوها ( أنهم قادرون عليها ) أي : على جذاذها وحصادها فبينا هم كذلك إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك .
وقال قتادة : ( كأن لم تغن ) كأن لم تنعم .
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا ، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ؟ [ هل مر بك نعيم قط ؟ ] فيقول : لا . ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا ”
وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ) [ هود : 94 ، 95 ] .
ثم قال تعالى : ( كذلك نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ، ( لقوم يتفكرون ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم بمواعيدها وتفلتها منهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض ، في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : 45 ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان – يعني : ابن [ ص: 261 ] الحكم – يقرأ على المنبر : ” وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ” ، قال : قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب .
وهذه قراءة غريبة ، وكأنها زيادة للتفسير .
وقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ) الآية : لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” قيل لي : لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيد بنى دارا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : ” إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا . فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها ” رواه ابن جرير .
وقال قتادة : حدثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، [ ص: 262 ] هلموا إلى ربكم ، إن ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى ” . قال : وأنزل ذلك في القرآن ، في قوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .