كانت مدينة حلب تُعد من أغنى مدن الدولة العثمانية، بل من أغنى مدن العالم في العهد العثماني، حوت من اﻷسواق والأوقاف والخانات والحمامات والقيساريات العشرات، وكانت مقصد التجار من الشرق والغرب، إنها مدينة حلب الشهباء، التي تُدمر الآن على مرأى الجميع، دون أي حراك فعلي. تنبض حلب تاريخا مشرفًا، وحضارات مشرقة على مر العصور، حيث تصنّف حلب على أنها من بين أقدم المدن المأهولة في التاريخ البشري، إذ يعود تاريخها إلى نحو 7 آلاف عام قبل الميلاد، كما تعرف أيضًا بأسوارها وأبوابها وقلاعها العظيمة، ونهرها نهر قويق، الذي لطالما كان مصدر المياه العذبة تاريخيًا. تناوبت على حلب دول وحضارات متنوعة، كان أهم مراحلها إبان الحكم العثماني، حيث شهدت حركة عمرانية هائلة في القرون العثمانية، أدت بالرحالة الأوروبيين أن يصفونها بأنها من أجمل مدن الدولة، وأتي على ذكرها في أدب الأوربيين، حينما يتطرق الحديث عن مدن العالم الغنية. كما أنها تنافست مع القاهرة، في حمل المرتبة الثانية بعد العاصمة إسطنبول، وفكّر الاتحاديون بجعلها عاصمة الدولة العثمانية، في الحرب العالمية الأولى إذا سقطت إسطنبول. ويذكر أن سوريا (بلاد الشام) دامت تحت حكم الدولة العثمانية سحابة أربعة قرون، منذ أن سحق السلطان سليم الأول، جيش المماليك في معركة مرج دابق، شمال حلب يوم 24 آب/ أغسطس 1516م، ومنها ملك مدن البلاد سلمًا، وعلى رأسها دمشق في 26 أيلول/ سبتمبر 1516، وحتى انسحاب العثمانيين منها في أعقاب الثورة العربية الكبرى، والحرب العالمية الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 1918م. بعد النصر العثماني في معركة مرج دابق، اتجه السلطان سليم وجيشه والأمراء الذين والوه إلى حلب، حيث استقبله أهلها سلمًا في 28 آب/ أغسطس 1516، وتجمعوا في الميدان الأزرق، حيث قام محافظو القلعة بتسليم مفاتيحها إليه، كما خرج الخليفة المتوكل، وقاضي القضاة الثلاثة، واستقبلهم السلطان سليم، فأجلس الخليفة إلى جانبه. كما عيّن السلطان سليم أحد قادته وهو جه أحمد باشا واليًا علي حلب، وبهذا أصبحت حلب أول ولاية سورية عثمانية، كما عيّن كمال جلبي قاضيا فيها. عرفت بلاد الشام عمومًا، وحلب خصوصًا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ازدهارًا اقتصاديًا وسكانيًا وعمرانيًا، وساهم في ذلك كون قوافل الحج التي كانت تجتمع في دمشق، لتنطلق إلى الحجاز، وأغلب قوافل التجارة البرية نحو الخليج العربي والعراق، كانت تمر من حلب. وبهذا شهدت مدينة حلب نهضة ادبية وفنية وعمرانية كبيرة، وأصبحت حلب ثالث أهم مدينة في الدولة العثمانية بعد القاهرة والقسطنطينية – إسطنبول، وأصبحت المدينة سوقا رئيسيا للتجارة بين بلاد الشرق والغرب، وشكلت عقدة تجارية مهمة بالمنطقة، وانفتحت أسواقها على الأسواق الأوروبية، وأنشئت فيها معامل كبيرة وضخمة لصنع الاقمشة وسواها، وغدت المدينة في القرن السادس عشر مخزنا للحرير، والتوابل، والمواد الطبية، والبضائع الثمينة. كما أنشئت غرفة تجارة حلب سنة 1885م، وكانت العلاقات التجارية مع بغداد والموصل شديدة الترابط، حيث مثلت حلب لمدن ما بين النهرين، منفذا تجاريًا بحريًا على المتوسط، وشكل العراق عمقها العربي الإسلامي. ومن أشهر ولاة حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الوالي أحمد جودت باشا، وهو من المؤرخين المشهورين، له تاريخ جودت في عدة مجلدات، وكان ذا عناية بالشؤون الثقافية، وناشد ناشد، وكامل باشا، وجميل باشا الذي امتدت ولايته ما بين 1879م و1886م، وإليه ينسب بناء المكتب الرشدي العسكري ومشفى الغرباء في حلب، والوالي رأفت باشا، 1885-1900م الذي أسف الأهالي بولاية حلب على عزله. وابتداءً من القرن الـ 18 بشكل خاص، بدأ القناصل والتجار الأوروبيون يقبلون على السكن في الشهباء حلب مع عائلاتهم، مؤسسين بذلك سلالات راسخة، لكن الإقتصاد في مدينة حلب تأثر بشدة، بعد افتتاح قناة السويس في العام 1869م، لتنتعش دمشق اقتصادياً، ولتعود لها أهميتها الحيوية كمركز العاصمة السورية بدل حلب مرة أخرى، بعد أفول نجمها كما في أيام العباسيين والأيوبيين. ومن الشواهد على ذيوع صيت حلب في تلك الفترة، ذكرها مرتين في قصص السير ويليم شكسبير في العام 1606م في مسرحية “ماكبث”، واستشهاد آخر نراه عن عظمة حلب في مسرحية عطيل. كما وصف كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب حدود ولاية حلب التاريخية إبان السلطنة العثمانية، بحيث يحدها من الجنوب لواء حماة من ولاية سورية، التي مركز واليها مدينة دمشق الشام، ومن الغرب البحر المتوسط، ثم ولاية أذنة (أضنة)، ومن الشمال ولاية سيواس، ومن الشرق ولاية ديار بكر، وولاية معمورة العزيز ولواء الزور. وذكر في كتابه أنه في حين مرت عبر دمشق قوافل شرقي الأردن وفلسطين ونجد والحجاز، أدارت حلب الشؤون التجارية للأناضول وكيليكيا ومنطقة الموصل وبغداد وفارس إذ كانت حلب تسيطر على الطريق التجاري من أوربا إلى الهند.
بعد الثورة العربية وخروج العثمانيين من بلاد الشام نهاية العام 1918م، أعلن عن قيام المملكة السورية العربية بحدود ضمت ما يماثل اليوم سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وشمل ذلك لواء اسكندرون وأنطاكية وأراضي الأقاليم السورية الشمالية في الأناضول.
إلا أنه، ونتيجة الرفض التركي للاتفاقيات (سايكس-بيكو وسيفر) بالإضافة لمعارك الاستقلال التي خاضها القائد التركي مصطفى كمال آتاتورك، فقد عقدت اتفاقية جديدة في العام 1923م عرفت باسم معاهدة لوزان لتعديل الحدود، تم بموجبه التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا.
واستمرت حلب كعاصمة إقتصادية للبلاد، وقبل 5 سنوات فقط، كانت هذه المدينة الوادعة من أكثر مدن سوريا أمانًا، وكانت رائحة الزعتر وصابون الغار الحلبي ذو السمعة الشهيرة، تفوح من شوارعها وأزقتها، ومحالها التجارية، وأسواقها القديمة.