عبد اللَّه بن وهب الراسبي
أشهر من نار على علم.
هو الخليفة الخامس عبد اللَّه بن وهب بن ميدعان بن مالك بن نصر الأزدي العماني.
وُلِدَ بعمان، والتقى بالرسول -صَلَّى اللَّه عليهِ وسَلَّم-، إذ كان في وفد عمان الذي توجَّه إلى المدينة عام 9هـ مع حذيفة بن محصن القلهاتي وغيره، لإعلان إسلام عمان وقبائلها، فهو صحابي جليل.
عُرِفَ بالعلم والرأي والصلاح والعبادة، ولَّاه عمر بن الخطاب -رضِيَ اللَّه عنه-على بعض الجند في فتوح العراق ولم يكن الفاروق يولّي إلا صحابيًّا، وشارك في فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص -رضِيَ اللَّه عنه-، وأبلى البلاء الحسن.
و لما أقبلت الفتن على البلاد الإسلاميَّة في آخر عهد الراشدين، كان في صف علي بن أبي طالب -كرم اللَّه وجهه- وشارك معه في صفين سنة 37هـ/657م.
كان عبد اللَّه بن وهب مِمَّن رفض التحكيم جملة وتفصيلًا، هو وجماعة كبير من أصحاب علي -كرم اللَّه وجهه-، فأُطلق عليهم اسم “المحكمة” لقولهم: “لا حكم إلا لله”، رفضوا التحكيم قبل أن يقع، ورفضوه قبل أن تظهر نتائجه الجائرة التي غيرت وجه الأمة الإسلامية.
هكذا انتبذ هؤلاء المحكمة مكانا غير بعيد من الكوفة، هو منطقة حروراء، فاستقروا بها وعزموا على إعلان إمامة يحيون بها خلافة الراشدين بعد أن خلع الإمام الشرعي نفسه، فتداولوا أمرهم بينهم، واجتمعوا في بيت عبد اللَّه بن وهب، ونادوا بانتخاب خليفة للمسلمين عن طريق الشورى دون اعتبار للنسب القبلي أو الأصل العرقي تحقيقًا لمبادئ الإسلام الشريفة الداعية إلى العدالة الاجتماعية وإلى تحكيم مقياس التقوى، وعرضوا الإمامة على علمائهم، وكلهم راغبون عنها مشفقون من مسؤولياتها، وهنا يبرز عبد اللَّه بن وهب لينقذ الموقف ويتولاها قائلا: “فواللَّه ما أخذتها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقًا من الموت” فبايعوه بالإمامة، ثمَّ أرادوه في الكلام فقال: “وما أنا والرأي الفطير، والكلام القضيب، دعوا الرأي يغب، فإن غبوبه يكشف لكم عن محضه”، وكان يقول: “حبُّ الهوينا يكسب النصب” فبويع إمامَ ظهور تجب على المسلمين طاعته.
و من هذه الرواية التي ذكرها الجاحظ، نلاحظ ترويه وحسن تدبيره من أول وهلة، وتبرز كفاءته عندما نعلم أنَّ المحكِّمة بايعوا في البداية معد بن مالك الإيادي، ثمَّ عدلوا عنه إلى عبد اللَّه بن وهب لمّا سمعوا معدًا يقول: “سلام على من بايع اللَّه شاريا”، وقالوا له: “خالفت لأنك برئت من القعدة”.
وهنا يبرز الاتجاهان الكبيران في فكر المحكمة، وهما التسرع في الخروج والثورة، أو القعود والتروي.
كان الخليفة الخامس عبد اللَّه بن وهب -رَحِمَهُ اللَّه- موصوفًا بحسن الرأي والعبادة، حتى لُقِّب بذي الثفنات لتأثير طول العبادة على جسده، ووصفه الجاحظ بأنه من فصحاء العرب، إليه تعود الأصول التأريخية للمذهب الإباضِيَّ الذي يحقِّق التوازن في السياسة الشرعية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وتنسب الإباضِيَّة إليه، فيسمون الوهبيَّة وقيل نسبة إلى الإمام أفلح بن عبد الوهاب الرستمي، تفرقة عن غيرها من الفرق المنشقة عن الإباضِيَّة كالنكار والفرثيَّة.
بعد اعتزالهم في حروراء حاول الإمام علي -كرم اللَّه وجهه- أن يثنيهم عن رأيهم وطالبهم بالرجوع إليه ووقعت بينه وبين عبد اللَّه بن وهب مراسلات لم تفلح في رجوع المحكمة عن قولهم.
ثم ظهرت معاني الفتنة واختلاط الأوراق في موقعة النهروان سنة 38هـ / 658م، واستشهد الإمام عبد اللَّه بن وهب قتله هانئ بن خطاب الأرحبي وزياد بن حفصة، وقد كان مع الإمام عبد اللَّه كثير من الصحابة منهم زيد بن حصن الطائي، وشريح بن أوفى، وحرقوص بن زهير السعدي، وشجرة بن أوفى السلمي من أهل بدر، وعبد اللَّه بن شجرة السلمي وهو مِمَّن بايع النبي -صَلَّى اللَّه عليهِ وسَلَّم- تحت الشجرة، وثرملة الحنظلي، ونافع، وعمير بن الحارث، وأبو عمرو بن نوفل، وهرم بن عمرو، والخريت بن راشد السامي -رحِمَهُم اللَّه جميعا-.
(وقد كان المحكِّمة ( أهل النهروان) أكثر الناس دقة في تطبيق تعاليم الإســلام الســمحة، وتجنب مــا يؤدي إلى الغلو، وإنمــا ألصق بهم مــا ألصق من الدعايات المغرضة تشويها لســمعتهم، وترويجا للسياسة القائمة على انتهاك الحرمات وبث الظلم، فإن بني أمية كانوا يرون في فكر المحكمة ما يزعزع اســتقرارهم ويهد أركانهم، لذلك لم يبالوا في نسبة العظائم إليهم وهم منها براء، كما لم يبالوا في وضع الأحاديث الكثيرة عن النبي -صَلَّى اللَّه عليهِ وسَلَّم-، للتشــهير بهم بما هم أبعد ما يكونون عنه).
يقول أبو بلال مرداس بن حُدَيْر راثيًا للإمام:
أبعد ابن وهب في الوفاء وفي التقى//ومن خاض في تلك الحروب المهالكا
أحبُّ لقاءً أو أرجِّي سلامة//وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا
فيا ربِّ سلِّم نيتي وبصيرتي//وهبني التقى حتَّى ألاقي أولئكا