باب الورع وترك الشبهات
قال الله تعالى :وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندّ اللَّهِ عَظِيمٌ – سورة النور من الآية 15 وقال تعالى : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادّ – سورة الفجر آية 14 الورع عندّ العلماء هو ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، والشبهات جمع شبهة وهو ما لم يتضح وجها حله وحرمته. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقدّ استبرأ لدّينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا أن في الجسدّ مضغة إذا صلحت صلح الجسدّ كله وإذا فسدّت فسدّ الجسدّ كله ألا وهي القلب« متفق عليه.
الحلال بين
(إن الحلال بين) أي ما أحل ظهر حليته بأن وردّ نص على حله أو مهدّ أصل يمكن استخراج الجزئيات منه كقوله تعالى: خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فإن اللام للنفع، فعلم منه أن الأصل ما فيه الحل إلا أن يثبت ما يعارضه
(وإن الحرام بين) أي ما حرم واضح حرمته بأن وردّ نص على تحريمه كالفواحش والمحارم وما فيه حدّ أو عقوبة أو مهدّ أصل مستخرج منه ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم »كل مسكر حرام «
(وبينهما) أي البين من الأمرين
(مشتبهات) لوقوعها بين أصلين ومشاركتها لأفرادّ كل منهما
(لا يعلمهن كثير من الناس) لتعارض الأمارتين، ولم يقل كل الناس لأن العلماء المحققين لا يشتبه عليهم ذلك، فإذا تردّدّ ذلك بين الحل والحرمة ولم يكن نص أو إجماع اجتهدّ فيه المجتهدّ فألحقه بأحدّهما بدّليل شرعي، وإذا لم يبق له شئ فالورع تركه. وقدّ اختلف العلماء في المشتبهات المشار إليها في هذا الحدّيث فقيل حرام لقوله: فمن اتقى الشبهات…الخ، قالوا: ومن لم يستبرئ لعرضه ودّينه فقدّ وقع في الحرام. وقيل هي حلال بدّليل قوله: كالراعي يرعى حول الحمى، فدّل على أنه لابس الحرام المرموز عنه بالحمى، وأن الترك ورع
(فمن اتقى الشبهات) أي من احترز وحفظ نفسه عنها
(فقدّ استبرأ ) أي طلب البراءة أو حصلها
(لدّينه) من ذم الشرع
(وعرضه) من وقوع الناس فيه لاتهامه بمواقعة المحظورات إن واقع الشبهات. وقيل المرادّ بالعرض البدّن: أي طهر دّينه وبدّنه
(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأن من سهل على نفسه ارتكاب الشبهة أوصله الحال متدّرجا إلى ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها أو ارتكب المحرمات لأن ما ارتكبه ربما كان حراما في نفس الأمر فيقع فيه (كالراعي يرعى حول الحمى) هو ما حمي من الأرض لأجل الدّواب ويمنع دّخول الغير، وهذا غير جائز إلا لله ورسوله لحدّيث »لا حمى إلا لله ورسوله«
(يوشك) أي يسرع
(أن يرتع فيه) أي في ذلك الحمى بناء على تساهله في المحافظة وجراءته عل الرعي. ثم نبه بكلمه
(ألا) على أمور خطرة في الشرع في ثلاثة مواضع إرشادّا إلى أن كل أمر دّخله حرف التنبيه له شأن ينبغي أن ينتبه له المخاطب ويستأنف الكلام لأجله فقال
(ألا وإن لكل ملك حمى) يمنع الناس عنه ويعاقب عليه
(ألا وإن حمى الله محارمه) وهي المعاصي فمن دّخلها بالتلبس بشيء منها استحق العقوبة، وشبه المحارم من حيث أنها ممنوع التبسط منها بحمى السلطان. ولما كان التورع والتهتك مما يتبع سلامة القلب وفسادّه نبه على ذلك بقوله
(ألا أن في الجسدّ مضغة) أي قطعة من اللحم قدّر ما يمضغ
(إذا صلحت) بفتح اللام أفصح من ضمها: أي بالإيمان والعلم والعرفان
(صلح الجسدّ كله) بالأعمال والأخلاق والأحوال
(وإذا فسدّت) أي تلك المضغة بالجحودّ والشك والكفران
(فسدّ الجسدّ كله) بالفجور والعصيان
(ألا وهي) أي المضغة الموصوفة بما ذكر
(القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية.
حسن الخلق
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس« رواه مسلم.
(البر) وهو لمقابلته بالفجور: عبارة عما اقتضاه الشرع وجوبا، كما أن الإثم عما نهى الشرع عنه وجوبا أو ندّبا، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن الإحسان، كما أن العقوق عبارة عن الإساءة
(حسن الخلق) أي معظم البر حسن الخلق: أي التخلق، فالحصر فيه مجازي كما في قوله »الحج عرفة« و»الدّين النصيحة«، والمرادّ منه الخلق المعروف الذي هو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندّى وأن بحب للناس ما يحب لنفسه
(والإثم) أي الذنب
(ما حاك) أي تردّدّ وتحرك، وقيل أس رسخ وأثر
(في نفسك) اضطرابا وقلقا ونفورا وكراهية لعدّم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع عليه
(وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي وجوههم وأشرافهم. وقدّ تبين من الحدّيث أن للإثم علامتين، وفيه أن للنفس شعورا من أصل الفطرة بما تحمدّ وتذم عاقبته ولكن غلبت عليها الشهوة فأوجبت لها الإقدّام على ما يضرها، فإذا عرفت هذا اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدّر إلا لشعورها بسوء عاقبته. ووجوه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء دّليل الإثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرها وتكره ضدّ ذلك، فكراهتها اطلاع الناس على فعلها ذلك يدّل على أنه إثم. ولا تعتبر كل علامة منهما علامة مستقلة على الإثم من غير احتياج إلى الأخرى ولكن كل جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبة من كل منهما كل محتمل وحينئذ فما وجدّ فيه العلامتان معًا فإثم قطعًا كالرياء والزنا وما انتفيتا فلا، وهما متلازمتان؛ لأن كراهة النفس تستلزم كراهة اطلاعهم وعكسه. والحدّيث مخصوص بغير مجردّ خطور المعصية، ما لم يعمل أو يتكلم
(رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم بل من أوجزها؛ إذ البر كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها، ولذا قابل صلى الله عليه وسلم بينهما.
عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: »حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دّع ما يريبك إلى ما لا يريبك« رواه الترمذي، وقال: حدّيث حسن صحيح.
(دّع) الظاهر أنه أمر ندّب وإرشادّ وحض على مكارم الأخلاق بالتورع عن الشبه، وليس أمر إيجاب بحيث يأثم تاركه ويكون عاصيًا بتركه
(ما يريبك إلى ما لا يريبك) تقول رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، المعنى أن اترك ما تشك فيه أي مما تعارض فيه دّليلا الحل والتحريم وخذ ما لا تشك فيه مما قام النص على حله أو قال بحله مجتهدّ، قياسا على ما جاء حله في النص ولم يعارضه ما يردّه.