أمّي
تركتني ها هنا بين العذاب
و مضت ، يا طول حزني و اكتئابي
تركتني للشقا وحدي هنا
واستراحت وحدها بين التراب
حيث لا جور و لا بغي و لا
ذرّة تنبي و تنبي بالخراب
حيث لا سيف و لا قنبلة
حيث لا حرب و لا لمع حراب
حيث لا قيد و لا سوط و لا
ظالم يطغى و مظلوم يحابي
…
خلّفتني أذكر الصفو كما
يذكر الشيخ خيالات الشباب
و نأت عنّي و شوقي حولها
ينشد الماضي و بي – أوّاه – ما بي
و دعاها حاصد العمر إلى
حيث أدعوها فتعيا عن جوابي
حيث أدعوها فلا يسمعني
غير صمت القبر و القفر اليباب
موتها كان مصابي كلّه
وحياتي بعدها فوق مصابي
…
أين منّي ظلّها الحاني و قد
ذهبت عنّي إلى غير إياب
سحبت أيّامها الجرحى على
لفحة البيد و أشواك الهضاب
ومضت في طرق العمر فمن
مسلك صعب إلى دنيا صعاب
وانتهت حيث انتهى الشوط بها
فاطمأنّت تحت أستار الغياب
…
آه ” يا أمّي ” و أشواك الأسى
تلهب الأوجاع في قلبي المذاب
فيك ودّعت شبابي و الصبا
وانطوت خلفي حلاوات التصابي
كيف أنساك و ذكراك على
سفر أيّامي كتاب في كتاب
إنّ ذكراك ورائي و على
وجهتي حيث مجيئي و ذهابي
كم تذكّرت يديك وهما
في يدي أو في طعامي و شرابي
كان يضنيك نحولي و إذا
مسّني البرد فزنداك ثيابي
و إذا أبكاني الجوع و لم
تملكي شيئا سوى الوعد الكذّاب
هدهدت كفاك رأسي مثلما
هدهد الفجر رياحين الرّوابي
…
كم هدتني يدم السمرا إلى
حقلنا في ( الغول في قاع الرحاب)
و إلى الوادي إلى الظلّ إلى
حيث يلقي الروض أنفاس الملاب
و سواقي النهر تلقي لحنها
ذائبا كاللطف في حلو العتاب
كم تمنّينا و كم دلّلتني
تحت صمت اللّيل و الشهب الخوابي
…
كم بكت عيناك لمّا رأتا
بصري يطفا و يطوي في الحجاب
و تذكّرت مصيري و الجوى
بين جنبيك جراح في التهاب
…
ها أنا يا أمّي اليوم فتى
طائر الصيت بعيد الشهاب
أملأ التاريخ لحنا وصدى
و تغني في ربا الخلد ربابي
فاسمعي يا أمّ صوتي وارقصي
من وراء القبر كالحورا الكعاب
ها أنا يا أمّ أرثيك و في
شجو هذا الشعر شجوي و انتحابي .