الأم الثائرة – أنيتا روديك

جوجل بلس

الأم الثائرة – أنيتا روديك

جاء ميلاد أنيتا روديك في عام 1942 كابنة ثالثة من أربعة، لأبوين إيطاليين هاجرا إلى ليتل هامبتون في إنجلترا. عملت أنيتا بعد أوقات الدراسة في المقهى الذي تملكه أمها، وبسبب ظروف الحرب العالمية، تعلمت أنيتا من أمها عدم التخلص من أي شيء يمكن إعادة استخدامه، لكن أبويها تطلقا وسنها ثمانية، وسرعان ما تزوجت الأم بآخر مات بعدها بعامين.

قرأت أنيتا في سن العاشرة كتاباً – مدعومًا بصور مقبضة – يتحدث عن مزاعم إبادة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، ما ملأها حماسة وثورة للدفاع عن المضطهدين، وبعدما أتمت دراسة اللغة الإنجليزية والتاريخ، عملت في البداية كمعلمة، ثم قررت قبول منحة دراسية في دولة المحتل الصهيوني في مستعمرات الكيبوتز، لكنها بعد ثلاثة أشهر طردت من هذه المنحة، إذ أن حبها الشديد للمزاح لم يكن أبناء عمومتنا ليحتملوه.

هذا الطرد كان له تأثير إيجابي، إذ قررت بعده أنيتا أن تسيح في ربوع العالم كله، وبعد عودتها لموطنها عملت في وظائف عدة، منها توزيع الجرائد في باريس، والتدريس في إنجلترا، ولدى الأمم المتحدة في جنيف. بما ادخرته من نقود سافرت إلى تاهيتي، استراليا، مدغشقر، موريشيوس، وأخيرًا جنوب أفريقيا، حيث عملت هناك كمعلمة، لكنها مرة أخرى طردت من وظيفتها لذهابها إلى نادي غنائي في ليلة كانت مخصصة للسود فقط، وهو ما كان خرقاً لقوانين التفرقة العنصرية السائدة وقتها، ما جعل الشرطة العنصرية تقوم بترحيلها لبلدها!

هذا الترحال أثر بشدة في شخصية أنيتا، وهي تروي لنا ذلك بقولها : “أنت تغير قيمك حين تغير مبادئك، فحين تقضي ستة أشهر مع أناس يفركون جلودهم بزبد الكاكاو كل يوم، ويغسلون شعورهم كل يوم بالطين، ثم تجد أن هذه الأمور تجدي فعلاً وتأتي بالطيب من النتائج، فأنت حتماً ستوقف كل معتقداتك السابقة، وإذا كنت مثلي، ستنمي حبًا جارفاً تجاه علم الأنثربولوجي (علم الأجناس البشرية)”.

بعد عودتها الثانية إلى موطنها، عرفتها أمها على زوج المستقبل: جوردون روديك، الشاب والشاعر والرحالة الاسكتلندي الصغير، ومعًا افتتحا وأدارا مطعمًا صغيرًا وفندقًا مساحته ثمان غرف. كان العمل مضنيًا والمجهود شاقًا، ما ترك لهما القليل جدًا من الوقت ليقضياه معًا ومع طفلتيهما.

إذا كنت تظن أنك ذا تـأثير ضـعيف لـصغر حجمـك، حـاول النـوم في غرفــة بها بعوضــة صــغيرة – إحدى دعايات ذا بودي شوب.

لذا بعد مرور ثلاث سنوات، قرر الزوجان ذوا الطفلتين أن الوقت حان للتغيير وبيع ما يملكانه. بموافقة أنيتا، سافر الزوج الرحال ليحقق حلمه في امتطاء ظهر حصان من مدينة بيونس آيريس في الأرجنتين إلى مدينة نيويورك الأمريكية ! في هذه الأثناء، كانت أنيتا بحاجة لعمل يشغل وقتها وتفكيرها، ويقيم أودها وبناتها، لكنها أصرت على عمل لا يشغلها عن رعاية بناتها. لذا قررت في عام 1976 وعمرها 33 سنة افتتاح محل لبيع مواد التجميل الطبيعية، ولأنها شبه معدمة قررت صنع مواد التجميل هذه من أي وكل خامة سبق وخزنتها في مرآبها/جراجها، والتي جمعتها خلال أسفارها الكثيرة، وهي غالباً ما كانت مواد استعملتها النسوة –اللاتي قابلتهن في أسفارها – في شعائرهن القبلية للتطهر والتزين.

جاء موقع المحل الأول في مدينة برايتون بجانب دار جنازات، وكان عدد أصناف البضاعة المعروضة للبيع وقتها 15 صنفاً، ومولت أنيتا ثمن هذه المغامرة التجارية برهنها لفندقها الصغير مقابل قرض قدره 6500 دولار.

لعبت الأقدار لعبتها وحبكت الظروف حيلتها، ففي الوقت الذي كانت أنيتا فيه تروج لموادها الطبيعية، كانت دول أوروبا تشهد صحوة اجتماعية تدعو لترك الصناعي والعودة للطبيعي، وحين قررت أنيتا طلاء جدران محلها -لتغطي شكله الخارجي البالي- باللون الأخضر التي لم تكن تملك لونًا غيره، كان اللون الأخضر هو اللون الرسمي الذي اختارته هذه الحركة الصحوية للعودة لكل ما هو طبيعي.

حين قررت أنيتا إعادة استخدام علب بلاستيكية مستعملة، قررت ذلك لضغط تكاليفها في البداية، ولم تكن نيتها إعادة التدوير لحماية البيئة. أرادت أنيتا افتتاح محلها الثاني، لكن البنك رفض طلبها قرضًا بقيمة 8000 دولار، ولذا راسلت زوجها تطلب إذنه في بيع نصف شركتها لصاحب محطة إعادة تمويل الوقود مقابل تمويل تكاليف المحل الثاني، لكنها قررت المضي في هذا الأمر قبل أن تصلها رسالة زوجها برفض هذه الفكرة.

قبل مرور عشرة أشهر كانت أنيتا قد افتتحت محلها الثاني في مدينة شيستر، وحينها عاد زوجها من السفر في عام 1977 وقرر مشاركتها إدارة مشروعها. ذاعت شهرة ذا بودي شوب (محل الجسم) في جميع الأنحاء، وكان تفاعل المشترين كبيرًا، حتى أنهم أرادوا بيع منتجات أنيتا الطبيعية في محلاتهم على هيئة فروع تحمل ذات الاسم.

حتى تلك الفترة كانت طريقة إدارة أي شركة لفروعها الكثيرة تعتمد على أفراد العائلة والأصدقاء، ولم يكن مصطلح منح حق الامتياز/التعهيد (Franchising) معروفًا، بل يمكن الإدعاء بأن زوجها جوردون ابتدعه، وكان المبدأ بسيطًا، فهما لم يطلبا مقابلاً ماديًا لاستخدام الاسم التجاري، بل قدما التمويل اللازم لافتتاح كل فرع، مقابل استخدام اسم ذا بودي شوب، ومنتجاته بالطبع.

قامت أنيتا بعمل مقابلات شخصية لكل من أراد الحصول على حق الامتياز، وهي كانت تطرح أسئلة مثل ما اسم زهرتك المفضلة، وكيف تريد أن تموت، ولذا لا عجب أن أكثر من نجحوا في الحصول على هذا الامتياز كانوا من النساء، وحتى اليوم ! لم يحتج الأمر لكثير من الوقت حتى طرحت أنيتا في عام 1984 أسهم شركتها في البورصة، وأصبح اليوم لدى مشروع أنيتا أكثر من ألفي محل يخدمون أكثر من ثمانين مليون عميل، في أكثر من خمسين بلد. هذا النجاح جعل ثروة أنيتا الخاصة تفوق أكثر من مائتي مليون دولار.

تروي لنا أنيتا كيف أنها تكره شركات التجميل، التي كونت صناعة عملاقة تبيع أوهامًا مستحيلة التحقيق، عبر الكثير من الأكاذيب. تلك الشركات تخدع النساء وتسيء استغلالهن! هذه الرؤية هي التي تحكم فلسفة العمل في “محل الجسم” : تحقيق الأرباح عبر خلق تغيير اجتماعي وبيئي.

لم تبذل أنيتا أبدًا الوعود بأن منتجاتها ستجعل عشرات السنين تزول من وجه أي امرأة، بل انتهجت أساليب غير تقليدية في الدعاية والإعلان، فهي لم تنفق المال في الدعايات، بل كانت تطلق روائح منتجاتها العطرية عبر الطرقات المؤدية لمحلاتها لتجذب الزبائن .

ذات يوم سمعت أنيتا مدير دار الجنائز المجاور لها يشكو من أن نشاط أنيتا يضر بأعمالهم، فما كان من أنيتا إلا وسربت الخبر الطريف إلى الجرائد، فتوافد الناس شغوفين لمعرفة ما هذا النشاط الذي سيضر بأعمال الجنائز !

بعدها اعتمدت أنيتا على كلمات المديح والتجارب الناجحة وتوصيات العملاء الراضين عن مستوى منتجاتها. عمد آل روديك كذلك إلى دعم قضايا البيئة، فاستخدموا واجهات محلاتهم لدعم مجهودات منظمة السلام الأخضر (جرين بيس) لوقف رمي النفايات السامة في بحر الشمال، وحملت دعاياتهم وأغلفة حقائبهم رسالات دعم لإيقاف حملات صيد الحيتان ولحماية غابات الأمطار. على أن أهم دعاياتهم حتى اليوم كانت الدعوة للتوقف عن تجربة جديد العقاقير على الحيوانات.

االفشلون هـم أنـاس لم يـدركوا قــربهم الــشديد مــن تحقيــق النجاح، حين يأسـوا مـن المحاولـة (توماس إديسون).

يتم انتقاء البائعين العاملين في محلات أنيتا بدقة فائقة، وهم يقضون شهرًا من العام في العمل مع المعاقين من الأطفال، كما يمنع البائعين من الهجوم على الزوار طمعًا في البيع لهم، فمن يريد أن يعرف عليه أن يسأل أولاً، على أن أغلفة المنتجات تغني عن طرح الأسئلة، من كثرة المعلومات المتوفرة فيها عن كل منتج، كما يمنع استخدام أجساد ووجوه الفاتنات في بذل وعود بجمال لن يتحقق!

حصدت أنيتا خلال مشوارها العديد والكثير من الجوائز التشجيعية، وهي تنسب الفضل لزوجها في نجاحها، إذ وفر لها عبقرية مالية وإدارية أعانتها على تحقيق ما وصلت إليه. في عام 2003 منحت ملكة بريطانيا أنيتا لقب السيدة (Dame) تقديرًا لجهودها ونجاحها.

في عام 2002 تنحت أنيتا عن منصب الإدارة، وخصصت ثمانين يوماً من السنة لتعمل فيهم كمستشارة تجميل في فروع محلاتها الكثيرة، بينما خصصت بقية أيام السنة للدفاع عن حقوق الأقليات والمضطهدين والمظلومين في كل مكان. اتخذت أنيتا قراراً ثورياً في ديسمبر 2005 بأنها لا تريد أن تموت غنية، ولذا قررت سلوك منهج تدريجي للتبرع بكامل ثروتها في سبيل رفع الظلم عن بني البشر في العالم كله.

الأم الثائرة كتبت الكثير من الكتب، وحدها ومع آخرين، لعل آخرها وأشهرها: العمل كما هو غير معتاد (Unusual as Business). لم تتوقف أنيتا عند هذا الحد، إذ أنها كذلك صاحبة مدونة تحمل اسمها وتضع فيها آخر أخبارها، ومقالاتها عن الحرية والظلم والسياسة وطرق بدء المشاريع التجارية.

في 17 من شهر مارس 2006 ،اشترت مجموعة لوريال شركة ذا بودي شوب، بمبلغ 3.652 مليون جنيه إسترليني، مما أثار الكثير من الجدل، إذ أن لوريال مملوكة جزئيًا لشركة نسلة، والتي كانت عرضة لحملة مقاطعة بسبب نوعية ألبان أطفال باعتها لأطفال دول العالم الثالث، ما يمثل تعارضًا مع ما قامت عليه ذا بودي شوب.

اكتشفت أنيتا إصابتها بفيروس التهاب الكبد الوبائي سي، والذي ترجح أن تكون حصلت عليه أثناء ولادتها أبنتها الثانية، حيث كان شائعًا مشاركة الإبر الطبية وقتها بين المرضى، وتوفيت عن عمر ناهز 64 عاما، في 11 سبتمبر 2007 على أثر أزمة قلبية.

مواضيع ذات صلة لـ الأم الثائرة – أنيتا روديك: