كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟
نهبط بالقارئ الكريم إلى قرية صغيرة من قرى بلاد الروس، وندخل به إحدى أكواخها حيث يرى سيدتين جالستين على مائدة واحدة تتناولان الشاي وتتسامران، إحدى هاتين السيدتين وهي الكبرى حضرية يشتغل زوجها بالتجارة، وقد جاءت لتقضي بضعة أيام مع شقيقتها القروية الجالسة أمامها، وبينما هما في مسامرات لطيفة وحديث شهي؛ أدى بهما الكلام إلى المقارنة بين معيشة أهل الريف، ومعيشة أهل المدن؛ فاندفعت الحضرية تبين لشقيقتها نضارة الحياة في المدن؛ وما فيها من الترف والنعيم في المأكل والملبس والمسكن، ثم عددت لها صنوف الملاهي وضروب الرفاهة التي يتنعمون بها، وتدرجت إلى وصف أماكن اللهو ودور التمثيل والحدائق والمتنزهات العامة التي يغشونها؛ رياضة للنفس، وترويحًا للخاطر، كل ذلك وشقيقتها القروية ساكتة لا تبدي ولا تعيد؛ لأن تلك كانت قد أفحمتها بذلاقة لسانها، إلا أنها تمكنت أخيراً من تغيير مجرى الحديث قائلة: “أنا قانعة بمعيشتي هذه البسيطة ولو خُيرتُْ بينها وبين معيشتكم لما فضلت سوى مانحن فيه من بساطة ملؤها السعادة والهناء، لا مراء في أن دخلكم أوفر من دخلنا، إلا أن طراز معيشتكم يتطلب نفقاتٍ كثيرةً قد تربو على الدخل، ولا يخفى ما في ذلك من سوء العاقبة، فكم من أسر غنية كانت بالأمس ترفل في حلل الرفاهة والنعيم أصبحت اليوم بلا مأوى تسأل الناس قوت يومها فلا تجده، َّ أما نحن القرويين فقل أن يوجد بيننا من يعيش عيشة أهل الثراء، ولكننا لا نعدم قوت يومنا على أي حال.
فأجابتها الكبرى وقد امتلأت غيظًا:” كفى يا عزيزتي؛ يحق لك أن تقولي ذلك طالما تجدين لذة بمساكنة العجول والخنازير، ما أبعدكم عن محجة اللطف والكمال أيها القرويون! بل ما أبعدكم عن معرفة ما فيه صلاح معاشكم ومعادكم! إنكم تجهدون أنفسكم صغارًا وكبارًا دائبين في العمل ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، ثم تموتون كما عشتم فقراء لا تورثون أولادكم سوى النصب والشقاء.
فأجابتها الصغرى:” ٍّحقا إن ما نحن فيه من العيش جاف، والعمل عندنا شاق، إلا أنه لم يتسرب إلى ربوعنا مفاسد المدنية و رذائلها بعدُ، وأخلاقنا على سذاجتها خالية من شوائب الأهواء النفسانية؛ ولذا نعيش ما عشنا في هدوء وسلام، ولكن أنتم في مدنكم تعيشون في جو محاط بالمكر والرياء، لا تأمن الزوجة فيه علي بعلها، ولا يطمئن الرجل لزوجته، إذا بتم ليلة على وفاق لا تلبثون أن تصبحوا على شقاق، قد يأتي يوم على زوجك فتستغويه إحدى الغانيات ، وما أكثرهن في المدن ، فتفقدين إذ ذاك هناءك العائلي ونعيمك المنزلي، أو يوسوس له الشيطان بمعاقرة بنت الحان؛ فيصبح من مدمنيها فيضل سواء السبيل، أو يسوقه الطمع إلى موائد القمار، وهناك البلية والدمار.
ثم غيرت المرأتان مجرى الحديث وخاضتا في حديث آخر خاص بالأزياء، وكانتا قد أتمتا تناول الشاي فقامتا تستعدان للنوم؛ إذ كان النعاس قد أثقل أجفانهما.
أما رب المنزل (باهوم) فكان جالسًا على الموقدة يسمع حوار المرأتين طوال تلك المدة، ثم ناجى نفسه قائلًا:” ٍّحقا إن شقيقة زوجتي على حق في بعض ما تقول، فإن القرويين نعيش ما عشنا في تعب ونصب، ثم يموت الواحد منا كما عاش دون أن يجني أقل ثمرة من عمله، آه لو كنت أملك قطعة صغيرة من الأرض لكنت الآن هنيء البال قرير العين، لا أخاف حتى رئيس الأبالسة”.
فسمع حديث نفسه إبليس وكان على مقربة منه؛ فابتسم ضاحكًا وقد عزم أن ينيله بغيته، ثم يورده موارد الهلكة من حيث أطمعه وكان بينهما بعد ذلك من الحوادث ما سوف تقرأ خبره في الفصول التالية:” أصبح باهوم والطمع يقيمه ويقعده، َّ ولا هم له إلا امتلاك أرض يصبح فيها صاحب الكلمة المطلقة؛ يأمر وينهى كما يريد، وكان بالقرب من الأرض التي يزرع فيها حبوبه، قطعة فسيحة من الأرض لسيدة من ذوات الأملاك؛ طيبة القلب، لينة العريكة، اعتادت أن تعامل جيرانها باللطف والإنسانية إلا أنه عرض لها أمر ذو بال ألهاها عن تعهدِ الأرض بنفسها، فوكلت أمر زرعها واستغلالها لوكيل أشغالها الذي كان على جانب عظيم من الخشونة وقساوة الطبع، فأخذ يذيق ضعاف القرويين جيرانه مر العذاب، ويثقل كاهلهم بالغرامات التي كان يفرضها عليهم من حين لآخر، وقد حرص باهومَّ كل الحرصِ على منع أسباب التحكك بجاره الغليظ الطبع، ولكن رغم ما كان يبذله من الاحتياطات والتحرز كانت بعض ماشيته تتسرب إلى المزرعة؛ فيقع بينه وبين الوكيل أخذ ورد ينتهي في الغالب بغرامة يتحملها المسكين طائعًا صاغرًا.
أقبل الشتاء ببرده القارس، وابيضت ذوائب الجبال، وانكمشت الماشية في زرائبها، فارتاح بال (باهوم) وعاش آمناً في سربه طول فترة الشتاء، ثم شاع في القرية أن السيدة صاحبة المزرعة عزمت على بيع أرضها صفقة واحدة، وتلا هذه الإشاعة خبر مؤداه:” أنصاحب الفندق القائم على الطريق العالية يساومها في شراء المزرعة، فذعر أهل القرية لهذا الخبر، وتوجسوا خيفة؛ لأن صاحب النزل كان أغلظ طبعًا من وكيل السيدة، فجمعوا جموعهم وتشاوروا في الأمر، فقر رأيهم على تأليف لجنة تقوم بشراء الأرض، فتألفت اللجنة وأرسلت من قبلها وفدًا إلى السيدة المالكة لشرائها، فقبلت السيدة ولم تمانع، إلا أن الشيطان أوغر صدور بعضهم على بعض؛ فتخاذلوا، وفشلوا في مهمتهم، وأخيراً عزموا على شراء المزرعة قطعًا، بدل شرائها صفقة واحدة، وأن يساوم كل منهم سيدة الأرض في القطعة التي يروم ابتياعها، جرى كل ذلك وباهوم ساكت لا يحرك ساكناً، ينظر والهًا إلى المزرعة وهي تباع قطعة قطعة، إلى أن كان ذات يوم وقد سمع أن أحد جيرانه ابتاع من السيدة قطعة من المزرعة تبلغ الخمسين فداناً، وقد دفع نصف ثمنها نقدًا، وتعهد بدفع الباقي أقساطًا لمدة سنة، فناجى نفسه يقول: “إلى متى أظل ساكناً و الأرض تباع؟!” ثم حدث امرأته بآماله، وقد خاطبها قائلًا:” ألا ترين كيف أن أهل القرية يتهافتون على شراء المزرعة ونحن هنا لا نحرك ساكناً؟ َ َ كلا؛ إن هذا لا يطاق، يجب أن نسعى في شراء قطعة من الأرض، ولو عشرين فداناً على الأقل، سيما وأن الحياة أصبحت عبئاً ثقيلًا بمضايقة هذا الفظ وكيل السيدة.
ثم فكرا كثيراً في الأمر، وتصفحا كل وجوه الرأي، وأخيرًا قر رأيهما على الشراء، ولميكن عند باهوم سوى بضع عشرات من الروبلات، فباع مهرة كانت عنده، وباع كذلك نصف ما لديه من خلايا النحل، وبعض أثاث المنزل، وأجر اثنين من أولاده في إحدى المزارع لمدة عام، وأخذ أجرتهما مقدمًا، ثم اقترض الباقي من أحد أنسبائه، فتوفر لديه جملة من المال يمكنه بها شراء قطعة صالحة من الأرض، فذهب إلى السيدة وساومها في قطعة من الأرض تبلغ الأربعين فداناً وفيها أجمة صغيرة، واتفق معها على دفع نصف الثمن فورًا، وتعهد بدفع الباقي أقساطًا على سنتين، وحرر على نفسه وثيقة بالمبلغ. تمت المبايعة، وسجلت بمحكمة البلدة، ووضع باهوم يده على الأرض، ثم مضى العام وكان المحصول جيدًا، فوفى ما عليه من الديون، وبذا أصبح يملك قطعة من الأرض يجولا لنظر فيها على بقاع فسيحة شتى الألوان كثيرة النماء، وكان كلما مر بأرضه الجديدة رقص قلبه طرباً، ونظر إليها بغير العين التي كان ينظر إليها من قبل، فعاش ردحًا من الزمن لا يعكر صفو حياته إلا تسرب مواشي الجيران إلى الحقل من حين لآخر، فلولا هذا المعكر لكان هناؤه أتم، إلا أنه احتمل ذلك في مبدأ الأمر، واكتفى بتحذير أصحاب المواشي، غير أن ذلك التحذير لم يجدِ نفعًا، فعمد إلى التقاضي، وأدى به الأمر إلى مشاكل عديدة حفظت عليه صدور أهل القرية؛ فأخذوا يعادونه سرا وجهرًا، أو يطلقون مواشيهم ترتع في مراعيه عمدًا بعد أن كانت تتسرب من نفسها على غير قصد، ثم هموا مرارًا بإحراق مزرعته وإيصال الأذى إليه بطرق مختلفة؛ مما أدى إلى شدة البغضاء واتساع خرق العداء، وبذا فقد هناؤه القديم، وأصبح مشغول البال لا يغمض له جفن، ولا يهنأ له عيش.
وشاع في ذلك الوقت أن هناك أرضًا زراعية جديدة عرضتها الحكومة للاستثمار، وأن الناس من جميع القرى يهاجرون إلى تلك الأراضي، ففكر باهوم في نفسه وقال:” فليهاجر من أراد من أهل القرية، أما أنا فلا أبرح مكاني، وسوف أنتهز هذه الفرصة لتوسيع ممتلكاتي فأشتري بعض الأراضي التي يتركها أصحابها.”
وبينما كان باهوم يمني النفس بهذه الآمال؛ إذ نزل بضيافته قروي كان مارا بعربته، فأكرم باهوم مثواه، فسأله:” أين كان؟ فأخبره القروي أنه كان يشتغل في جهات(الفولجا)؛ حيث الأراضي التي كانت تستعمر حديثاً هناك، وأفضى به الحديث إلى وصفها والإطناب في خصوبتها وجودتها، زاعمًا أن الشيلم الذي يزرع في تلك الأراضي ينمو حتى يصير طوله أعلى من قامة الفرس، ثم أتم حديثه قائلًا:” إن أولياء الأمور هناك يتبرعون بخمسة وعشرين فداناً لكل من أراد استثمار تلك الأراضي الخصبة، وأن رجلًا من أهل قرية باهوم حضر تلك الجهات صفر اليدين خالي الوفاض فأصبح الآن يملك ستة خيول، ورأسين من البقر.
فقال باهوم في نفسه:” ما الذي يمنعني من هجر هذه البقعة الضيقة إلى تلك البقاع الفسيحة؛ حيث الربح الوافر، والثراء العاجل، وإني لأكونن من الحمقى إذا لم أنتهز هذه الفرصة السانحة، ولكن عليَّ أن أتحقق الأمر بنفسي أولاً”.
كان الوقت شتاء فقعد ينتظر أوائل الصيف، حتى إذا حل الربيع كان قد أتم معدات السفر، فركب زورقًا بخاريٍّا أقله حتى سمارا، ومن ثم قطع ثلاثمائة ميل على أقدامه حتى وصل المكان المقصود، فوجد الأرض كما وصفها القروي، وعلم أن الفلاح المستثمر يعطي قطعة لا تقل مساحتها عن خمسة وعشرين فداناً، وأن هناك أرضًا أخرى معروضة للبيع قيمة الفدان منها لا يزيد عن ثلاث روابل ففرح باهوم بهذا الاستكشاف وقفل راجعًا إلى قريته بعد أن تحقق صدق الخبر، وما وصل إليها حتى شرع في بيع ممتلكاته وتهيئة ما يلزم للمهاجرة هو وأفراد العائلة.
وفي أوائل فصل الربيع سافر إلى مقره الجديد وحط الرحال في قرية كبيرة من قرى تلك الأراضي، وكان حظه منها هو وأولاده خمسة أنصبة بلغ مجموعها ١٢٥ فداناً في جهات متفرقة من القرية التي استوطنها؛ أي أضعاف ما كان يملكه في قريته الأولى، فأصبح لديه حقل واسع، ومرعى فسيح ترتع فيه كثير من الماشية، ثم مضت أيام اشتغل أثناءها باهوم بتخطيط المزرعة، وبناء العزبة، وشراء الدواب اللازمة للعمل، ولذا كان مبدأ هجرته قانعًا بحياته الجديدة فرحًا بما رزقه ﷲ، إلا أنه ما كاد يتم ما شرع فيه حتى تسلط عليه الطمع ثانياً، فصار ينظر إلى أرضه الجديدة بعين الاستصغار.
زرع في عامه الأول قمحًا؛ فكان المحصول جيدًا، فطمع في الزيادة، غير أن الأرض لم تسعفه بطلبته؛ لأنها كانت تتفاوت في الخصوبة، فلا تصلح جميعها لزراعة القمح، فعول على إيجار أراض أخرى تصلح لذلك، ففعل، إلا أن ذلك لم يرقْ في عينه أيضًا، فكان يشكو من بعد الأرض وصعوبة النقل، ففكر في نفسه قائلًا: “لو كنت أشتري قطعة مستقلة خارجة عن نطاق المشروع فأبني عليها ضيعة صغيرة لكان لي من وراء ذلك فوائد جمة” وكانت هذه الفكرة ماثلة بذهنه يفكر بها من حين لآخر، ثم سار على هذه الوتيرة وهو يستأجر أرضًا ويزرعها قمحًا مدة ثلاثة أعوام، وكان الدهر مواتياً له، فربح أرباحًا وفيرة؛ لجودة المحصول، إلا أن ذلك كله ما كان ليقلل من طمعه، بل كان يزداد تذمرًا كلما فكر في المال الذي يصرفه للمؤاجر، واتفق أن أجر في العام الثالث قطعة من الأرض من بعض القرويين هو وأحد التجار، ثم وقع بينهما وبين أصحاب الأرض منازعات أدت إلى التقاضي، وأسفرت عن خسارتهما؛ فتذمر باهوم وقال في نفسه: “كذللك ما كان ليقع لو أن الأرض كانت لي خاصة.”
ومن ذلك الحين أخذ يبحث عن قطعة أرض للشراء، فأوقعته المقادير في قطعة صالحة أراد صاحبها أن يبيعها عاجلًا؛ تخلصًا من عسر أحاق به، وكانت الأرض تبلغ مساحتها ١٣٠٠ فدان فصلها باهوم بمبلغ ١٥٠٠ روبل يدفع نصف ثمنها فورًا، ويكتب على نفسه وثيقة بالباقي، وقبل أن يتم البيع بأيام مر عليه بعض التجار وطلب منه علفًا لفرسه فاحتفى باهوم به ودعاه إلى تناول الشاي معًا وجلسا يتحدثان، فسأله باهوم: “من أين هو آت؟ فأخبره أنه آت من أرض بعيدة تابعة لقبائل البشكير؛ حيث اشترى لنفسه هناك ثلاثة عشر ألف فدان من الأرض بمبلغ لا يزيد عن ألف روبل، فدهش باهوم واستزاده الخبر، فقال الرجل:” َّ وما على المرء إلا أن يتودد إلى الرؤساء بهدايا فيمنحونه كل ما يطلب، وقد اشتريت لهم ملبوسًا وسجادة وعلبة من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كلفني مجموعها نحو مائة روبل، وبهذه الوسيلة أكرمني الرئيس بأن تنازل عن ثمانية كوبكات في ثمن الفدان الواحد” قال ذلك وأخرج صك المبايعة يريه لباهوم وهو يقول: “إن موقع الأرض قريب من النهر، ومما يزيدها أهمية أنها بِكر لم تستغل بعدُ، فافتتن باهوم بأقوال الرجل ولم يتمالك عن استزادته الحديث والإلحاف عليه بالسؤال، فأجابه الرجل: “إن هؤلاء القوم يملكون من الأرض ما لا يقع تحت حصر ولا عد، وهم على جانب عظيم من السذاجة وبلادة الطبع، ليس للأرض عندهم أدنى قيمة” فأطبق خاتم الحرص على قلب باهوم وناجى نفسه قائلًا:” أنا الآن أملك ألف روبل، فأي شيء يجبرني على شراء قطعة من الأرض مساحتها ١٣٠٠ فدان بينما يمكنني شراء عشرة أضعاف هذا المقدار بنفس المبلغ دون أن أثقل كاهلي بالدين؟!”
لم يتردد باهوم في الأمر لحظة واحدة بل ما كاد الرجل يفارق الضيعة حتى كان هو وخادمه على الطريق الموصلة إلى قبائل البشكير؛ ليتحقق الأمر بنفسه وبعد مسيرة بضع ساعات حط رحاله في إحدى القرى؛ ليشتري صندوقًا من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كما أوصاه الرجل، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى مكان القبيلة بعد أن قطع مسافة لا تقل عن ثلاثمائة ميل فوجد الأمر كما وصفه الرجل، ورأى أن القوم يسكنون الخيام بالقرب من مزارع فسيحة يخترقها نهر عظيم، وجل معيشتهم على اللحوم ومستخرجات الألبان، ولا يعنون بزراعة الأرض وغرسها مطلقًا، والنساء هن اللواتي يقمن بكل الأعمال، أما الرجال فلا هم لهم إلا الأكل وشرب الشاي والضرب على القيثارة، وكلهم أقوياء البنية صحاح الأجسام، يقضون فصل الصيف باللهو واللعب، ولا يباشر ونفيه أي عمل من الأعمال، وهم على درجة عظيمة من السذاجة وبلادة الطبع، ولا يعلمون من الروسية حرفًا واحدًا وإنما يتكلمون بلغة خاصة بهم، ومن عاداتهم الجميلة:” إكرام وفادة الغريب؛ إذ ما كاد يقع نظرهم على باهوم حتى خرجوا من خيامهم والتفوا حوله صغارًا وكبارًا يتأملون وجهه، وكان بينهم رجل يتكلم بالروسية، فتوسط بينه وبين قومه وسأله عن قصده، فأخبره باهوم أنه جاء ليصيب عندهم بعض الأرض، ففرحوا بذلك، وأخذوا بيده إلى إحدى الخيام الكبيرة؛ حيث أجلسوه على وسادة وثيرة، وقدموا له أعز ما لديهم من المأكل والمشرب، وبعد الانتهاء من الطعام قام باهوم إلى عربته، وأخرج ما كان لديه من الهدايا، ووزعها عليهم بالتساوي؛ فارتسمت على وجوههم أمارات البشر والسرور، وأخذوا يتكلمون فيما بينهم مدة طويلة، وأخيراً أشركوا الترجمان في الحديث، فالتفت هذا إلى باهوم وقال له: “قد سر القوم من هديتك أيما سرور، ويشكرونك كثيراً على هذا الصنيع، ومن عادتهم إكرام الضيف بكل ما في وسعهم، فاطلب ما تريد منهم لقاء هديتك، فإنهم لا يتأخرون لحظة واحدة عن إسعافك بمرغوبك”، فأجابه باهوم: “جل رغبتي هو أن أصيب عندكم قطعة من الأرض لزرعها واستثمارها؛ لأن الأرض عندكم خصبة للغاية”، فأخبرهم الترجمان بما يقول فعادوا إلى حديثهم ثانياً، وكان باهوم يجهل لغة القوم، وإنما رآهم يبتسمون ويضحكون، ثم التفت إليه الترجمان قائلًا: “يقولون: إنهم سوف يعطونك بكل سرور قدر ما تطلب من الأرض، فما عليك إلا أن تشير بيدك إلى قطعة الأرض التي تريدها لنفسك فتكون لك”، وما كاد الرجل يتم حديثه حتى قامت ضجة بين القوم، فسأل باهوم عن جلية الأمر فأخبره الوسيط أن القوم قد انقسموا إلى فريقين:” فريق منهم يريد ألا يبت في الأمر حتى يحضر الرئيس، وآخرون يخالفونهم في الرأي.”
وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم؛ إذ برجل ضخم الجثة عريض الأكتاف يلبس قبعة كبيرة من فرو الذئاب قد دخل من باب الخيمة، فوجم القوم وسكتوا كأنما على رؤوسهم الطير، وقد قاموا؛ إجلالاً لشأن القادم، وإكبارًا لأمره، فأخبره الترجمان أن القادم هو رئيس القوم فقام باهوم مسرعًا وأحضر له نصيبه من الهدية وهي خمسة أرطال من الشاي وبعض الثياب النفيسة، فتقبلها الرئيس شاكرًا وجلس في صدر المكان والتفا لقوم حوله يحدثونه بشأن باهوم، فأشار إليهم بالسكوت، ثم التفت إليه يخاطبه بالروسية: “أخبرني القوم بشأنك، وما كنت لأرد لك طلباً، فاختر القطعة التي ترضاها لنفسك، فإن لدينا كثيراً من الأرض كما ترى”، فقال باهوم في نفسه: “كيف أقبل منه ذلك بمجرد القول بلا قيد ولا شرط، ألا يجوز أنهم يندمون في المستقبل فيرجعون ما هبوه لي من الأرض؟!” ثم خاطب الرئيس قائلًا: “أقدم لكم جزيل الشكر على هذا الإكرام، ولكن ألا يجدر بنا أن نستوثق الأمر بحجة أو سند؛ فإن الأعمار بيد ﷲ، والمرء لا يأمل أن يخلد طول الدهر، ألا يجوز أن يأتي بعدكم خلف لا يرضى بعملكم فينازعنا في الأرض؟” فأجابه الرئيس: “إنك محق فيما تقول وسوف يكون الأمر كما تريد” فقال باهوم: “بلغني أن أحد التجار اشترى منكم من عهد قريب قطعة من الأرض، وأخذ عليكم عقدًا بالبيع، وأنا أحب أن تعاملوني بمثل معاملته.”
فأجابه الرئيس:” حبٍّا وكرامة، عندما يتم الاتفاق نكتب عقدًا بذلك، ثم نسجله في محكمة البلدة.”
فسأله باهوم: “وكم يكون الثمن؟” فأجابه الرئيس بقوله: “إن الثمن عندنا محدد لا يتغير فإننا نأخذ ألف روبل عن اليوم (الكامل)، فلم يفهم باهوم ماذا أراد بقوله: “اليوم الكامل، فسأله مستفهمًا: “ماذا تعني باليوم الكامل؟ وكم فداناً يكون؟” فأجاب الرئيس: “نحن لا نستعمل المقاييس في مسح الأرض، وإنما نقدرها بالسير فيها يومًا كاملًا، وثمن الأرض التي يقطعها المرء مشياً على أقدامه يومًا كاملًا هو ألف روبل” ففرح باهوم وصاح قائلًا: “ولكنني أقطع في اليوم أرضًا كبيرة للغاية” فأجاب الرئيس: “كل ما تسير على قدر جهدك يكون ملكًا لك؛ على شرط الرجوع قبل غروب الشمس، فإذا غربت الشمس ولم ترجع تخسر جميع ما تدفعه من المال”، فقال باهوم: “ولكن كيف السبيل إلى معرفة الأرض التي أقطعها؟” فأجابه قائلًا:” إن ذلك سهل ميسور؛ عليك أن تختار لنفسك بقعة من الأرض تسير منها، وعند كل ثنية من الأرض تحفر حفرة صغيرة، تجعل بجانبها كومة من التراب بفأس صغير يكون معك لهذا الغرض، وعند الانتهاء نصل نحن تلك العلامات بحراثة دائر في الأرض التي تقطعها في اليوم، ولكم طلق الحرية في أن تسير في الأرض كما تريد، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس.
فارتاح لذلك باهوم، وتقرر أن يبدأ في السير صباح ذلك اليوم، ثم أكملوا يومهم في الحديث والمنادمة حتى إذا أقبل الليل فرشوا له فراشًا وثيراً، وتركوه في الخيمة لينام فيها ليلته، بعد أن وعده الرئيس بأن يوافيه صباحًا قبل بزوغ الشمس.
رقد باهوم طول ليلته وهو يبني لنفسه القصور والعلالي متقلباً على فراش الأماني والأحلام دون أن يغمض له جفن أو يكتحل بنوم، وقبيل الفجر أخذ التعب منه مأخذه وقد تغلب عليه النعاس، فأخذته سِنة من النوم، ثم رأى فيما يراه النائم أن الرئيس أقبل عليه ينتظره على باب الخيمة فخرج إليه يسأله عن جلية الأمر فوجد أن القادم ليس الرئيس، وإنما هو الرجل التاجر الذي أرشده إلى أراضي البشكير، فتقدم منه وقدهم أن يسأله:” متى حضر؟ وإذا به يرى في وجهه صورة الرجل القروي الذي أقبل إليه في قريته الأولى من جهة الفولجا، فهم أن يصافحه ويرحب به، وإذا به يرى في وجهه صورة إبليس اللعين في شكل بشع ومنظر مريع، فأشاح بوجهه إلى جهة أخرى فرأى جثة إنسان ملقاة على مقربة منه فاقترب من الجثة ليتأمل وجه صاحبها، ولكنه ما كاد يقترب منها بضع خطوات حتى ارتد مذعورًا؛ لأنه رأى فيها صورة نفسه، ثم قام من نومه وهو على هذه الحالة ممتقع اللون ترتعد فرائصه فرقًا، ونظر إلى باب الخيمة فلمير غير حمرة الشفق فعلم أن ستر الليل أوشك أن يتمزق فلا يمضي القليل حتى يسفر الصباح عن وجهه فهب من فراشه وهو يقول: “ما أكثر ما يرى الإنسان في نومه لا شك أن ما رأيته هو أضغاث أحلام، وها قد قرب الصبح، والقوم نيام بعد” ثم ذهب مسرعً انحو خادمه الذي كان نائمًا في العربة فأيقظه وأمره بالاستعداد، ثم أسرع نحو القوم يوقظهم فصحا القوم واجتمعوا في خيمته، ولم يلبث أن وافاهم الرئيس؛ وكانت الشمس قد قاربت البزوغ، فأمر بإحضار طعام الإفطار، وعرض على باهوم تناول بعض الشاي فأبى قائلًا: “لم يبقَ متسع من الوقت فلنبدأ بالعمل إن كنا فاعلين.”
وعند ذلك وقف القوم استعدادًا للمسير ثم ركب بعضهم العربات، وامتطى آخرون متون الجياد، وركب باهوم عربته، وسار في طليعة القوم مع الرئيس، وبعد أن ساروا قليلًا وصلوا إلى تل صغير يشرف على سهل فسيح الأرجاء وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ؛ فوقف القوم وتقدم الرئيس قائلًا وقد أشار بيده إلى السهل: “انظر كل هذا السهل الفسيح ملك لنا، ولك أن تسير فيه أنى تشاء” وبعد أن قال ذلك خلع قبعته و وضعها على الأرض قائلًا: “فلتكن هذه القبعة علامة لمبدأ سيرك فابتدئ في السير من هنا، ثم ارجع إليها ثانية بعد أن تتم دورتك، وكل الأرض التي تمشي بها تكون ملكًا لك.”
ولم يتمالك باهوم من إظهار الفرح والسرور عندما رأى ذلك السهل الفسيح وتيقن أنه خصب يصلح لزراعة كل أنواع الحبوب، ثم أسرع من وقته فوضع ما لديه من النقود وهو الألف روبل في قبعة الرئيس، ثم طرح رداءه الخارجي، وشمر عن أكمام قميصه؛ ليكون خفيف الحمل في السير، وتمنطق بسير من الجلد شده على وسطه، وحمل على ظهره حقيبة صغيرة فيها بعض الزاد وما يلزم لشربه ذلك اليوم، ثم أمسك بالفأس والتفت يمنة ويسرة؛ ليختار له وجهة للسير، وبعد أن وقف برهة ناجى نفسه قائلًا:” كل الأرض سواء، ولكن يحسن بي أن أسير نحو الشرق” قال ذلك وحمل فأسه على ظهره وسار يتبع مشرق الشمس.”
وبعد أن قطع نحو ألف ياردة وقف قليلًا فحفر الأرض ثم جعل بجانبها كومة من التراب علامة لوصوله تلك البقعة، وكان يمشي مشيته الاعتيادية لا يمهل ولا يعدو فقطع بذلك ألف ياردة أخرى وجعل علامة أخرى، ثم مشى قليلًا ونظر إلى التل؛ حيث كان القوم فلم يتبنينهم جيدًا؛ لأنه كان قد ابتعد عنهم كثيراً بمسافة لا تقل عن الثلاثة أميال كما قدرها باهوم في نفسه، وكان الوقت ضحى فابتدأ يشعر بحرارة الشمس فقال في نفسه: “قد قطعت ربع ما يجب أن أقطعه في اليوم، وعليَّ أن أتم المربع في باقي اليوم، ولكن لا يزال أمامي متسع من الوقت” قال ذلك، وخلع نعليه، وربطهما في وسطه؛ ليرتاح في المشي، ثم سار في وجهته الأولى، وكان كلما سار وجد الأرض أخصب والتربة أجود، فقال في نفسه: “إنه من الحمق ترك هذه البقعة الخصبة ما عليَّ لو سرت ثلاثة أميال أخرى” فسار فيها وقد جدد الحرص في نفسه همته الأولى حتى أخذ التعب منه مأخذه، فنظر وإذا بالشمس في كبد السماء فعلم أن النهار قد انتصف، فوقف ريثما جعل علامة لوصوله تلك البقعة ثم جلس للغذاء فأكل بعض الزاد وشرب قليلًا من الماء وانتصب واقفًا وهو يقول: “يجب أن أسير؛ لأن الراحة تجلب النعاس، وإذا نمت قليلًا لا آمن من الخسارة “فسار من وقته وقد أراد أن يعطف إلى وجهة أخرى؛ إتمامًا للمربع، غير أنه أبصر على مقربة منه أرضًا منخفضة فقال في نفسه: “هذه الأرض تصلح لزراعة الكتان وما كنت لأترك هذه الفرصة” قال ذلك ومشى حولها حتى إذا ما أتم مسيره وقف عند نهايتها، وجعل علامة لوصوله تلك البقعة أيضًا، ثم نظر إلى التل فرأى أن حجمه قد صغرّ ٍجدا فعلم أنه قطع كثيراً، وأنه إن لم يسرع في الرجوع خسر كل آماله، فأسرع لوقته وهو يقول: “إن الأرض التي قطعتها لا نسبة بين طولها وعرضها؛ إذ إن الطول سوف يربو كثيراً عن العرض، ولكن رغم ذلك فقد أصبحت أملك قطعة فسيحة من الأرض “ثم وقف برهة يحفر الأرض بسرعة زائدة؛ لتكون علامة وصوله تلك الجهة، وبعد أنأتم عمله انعطف نحو التل يريد الرجوع مسرعًا، إلا أن كثرة المشي وشدة الحر أنهكتا قواه، فصار يمشي بصعوبة ويتهادى في مشيته كالشيخ الضعيف بعد أن كان يهرول، أما قدماه فقد تشققتا وسالت الدماء منهما؛ لكثرة ما اصطدم أثناء مشيه بالحجارة والحصى وهو لا يعي، وتخاذل ساقاه وضعفتا عن حمله؛ إذ كان في حاجة شديدة إلى بعض الراحة، ولكن أنى له ذلك والشمس آخذة في الغروب شيئاً فشيئاً؟!
وكان ما عليه من الحمل يضايقه كثيراً فرمى حقيبته أولاً، ثم نعليه، وخلع بعد ذلك صدرته، وهكذا صار يرمي ما عليه من الملابس حتى لم يبقَ عليه سوى القميص والسروال، وأمسك بيده الفأس ليتوكأ عليه، وسار يعدو بكل قواه، واستمر مدة على هذه الوتيرة، ثم نظر إلى الشمس فعلم أنها لا تلبث أن تغرب، ففزع لذلك كل الفزع وقال في نفسه: “رباه ماذا العمل؟ يخيل لي أن الطمع سيفسد كل آمالي” غير أنه ما لبث أن تشجع قائلًا: “عار عليَّ أن أرجع عن عزمي فأتقاعد عن السير بعد أن قطعت هذه الشقة الطويلة” فجمع نفسه وسار يمشي بكل قوته حتى قارب التل فسمع صياح القوم من بعد؛ فتشجع ثانية وأخذ يعدو بكل ما فيه من قوة وعزم، وكانت الشمس قد قاربت الغروب فلا تمضي بضع دقائق حتى تختفي عن الأنظار إلى ما وراء الشفق الأحمر، إلا أن باهوم كان فيذلك الوقت على مسيرة بضع خطوات من سفح التل يسمع صياح القوم ويميز أصواتهم ويرى قبعة الرئيس، عند ذلك تذكر ما رآه في الحلم فقال في نفسه:” ٍّحقا إن الأرض التي قطعتها فسيحة الأرجاء بعيدة المدى، ولكن هل كتب لي في لوح المقدور أن أعيش عليها؟!” ثم عاد فتذكر أنه على قيد خطوات من مبدأ مسيره، وأنه ما عليه إلا أن يجمع عزيمته ثانية فيصل إليها ويملك الأرض، فجددت هذه الأماني في نفسه ميت الأمل، فسار طورًا يتهادى كالشيخ الضعيف، وتارة يحبو كالطفل الرضيع حتى وصل سفح التل، عند ذلك نظر وإذا بالشمس قد غربت وأصبح السهل في ظلام حالك، فتقطعت نياط قلبه وصاح يقول: “أواه قد ذهبت أتعابي أدراج الرياح” إلا أن القوم لم ينقطعوا عن صياحهم وندائهم فتذكر أن مكانهم أعلى من مكانه؛ لأنه ما زال في سفح التل، وأن الشمس لا تزال ظاهرة لديهم فتنفس الصعداء، وجمع كل ما لديه من قوة وعزم، وأخذ يصعد التل، فوصل القمة وكانت الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، ثم عاد فتذكر ما رآه في الحلم فصرخ صرخة مزعجة وارتمى على الأرض بالقرب من قبعة الرئيس وقد وضع يده عليها، فقال الرئيس: “إنه سعيد الحظ؛ فقد أصاب قطعة كبيرة من الأرض” ثم أسرع خادم باهوم ليرفعه عن الأرض، ولكنه ما كاد يرفعه قليلًا حتى سال الدم من فمه وارتمى على الأرض جثة هامدة، فوجم القوم وأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الكآبة والحزن.
وقام خادم باهوم فحفر لسيده قبراً يبلغ طوله ستة أقدام، وكان ذلك كل نصيبه من الأرض.